الإعلام عبر التعاون وفي التحول
Brunnenstraße 9, 10119 Berlin, Germany
mict-international.org

مشروعاتنا الأخرى
afghanistan-today.org
niqash.org
correspondents.org
English

تحقيق | الجزيرة: نهاية مشروع كبير

محمد هلالي
الخرطوم - مشروع الجزيرة في السودان كان أحد المشاريع المنعشة لاقتصاد البلاد، ولكن حاله الآن ومعاناة المزارعين لا تمد بصلة لعظمته الماضية.
25.04.2024
الحشائش التي تنبت بصورة عشوائية في المناطق الزراعية تعطل عمل البوابات الموجودة بالجداول الرئيسية لتوزيع المياه في مشروع الجزيرة.
الحشائش التي تنبت بصورة عشوائية في المناطق الزراعية تعطل عمل البوابات الموجودة بالجداول الرئيسية لتوزيع المياه في مشروع الجزيرة.

أصدر قاضي محكمة الاستئناف للطعون الإدارية بولاية الجزيرة، عبد الرحمن محمد طه، في 19 سبتمبر الماضي قراراً قضى ببطلان القرار الصادر من مجلس إدارة مشروع الجزيرة، قبل ثلاثة أعوام، بإلغاء وظائف 3.5 ألف عامل بالمشروع، بعد أن إعتبره باطلاً وغير قانونياً، وأكد استمرارية العاملين بوظائفهم من تاريخ الايقاف في فاتح  نوفمبر 2009 وحتى صدور حكم المحكمة.

وهذا الخبر الذي تداولته صحف الصادر صبيحة اليوم التالي لهذه المحكمة في السودان يمثل شكلاً من أشكال الصراع الدائم والمستمر بين مزارعي مشروع الجزيرة والسلطة الحاكمة في الخرطوم منذ استقلال البلاد في 1956. ولذلك قصة طويلة وحكاية لها فصول درامية.

من فصول الحكاية

منذ بدايات تشكل وجود الدولة السودانية الحالية، كان للموقع الاستراتيجي المتميز لولاية الجزيرة أهمية اقتصادية واجتماعية وسياسية كبرى نسبة لوضعها الجغرافي الواقع في قلب السودان، وهذا الامر أعطاها فرصة للعب دور تاريخي بارز وحاسم احيانا في تاريخ السودان القديم والحديث.

تقع الجزيرة بين النيلين الازرق والابيض وتمتد من خط 15 شمالا حتى خط السكة الحديدية الرابطة بين سنار وكوستي.

وبناءً على هذه المعطيات ظل مشروع الجزيرة، منذ إنشائه على يد السلطة الإنجليزية في العام 1925 في مساحة وصلت إلى 2.2 مليون فدان تروى بالري الانسيابي، يمثل العمود الفقري للإقتصاد السوداني حتى صعود الحركة الإسلامية للسلطة في البلاد عام 1989.

ورغم عدم إحداث تطور ملحوظ في المشروع طوال فترات الحكم الوطني التي تعاقبت على حكم البلاد، إلا انها لم تجرؤ على المساس بالمشروع بصورة مؤثرة من حيث الاسس الاقتصادية والاجتماعية والهكيلية والنظام العلمي التي انشئ على اساسها المشروع، وذلك مع العلم أن بدايات الانهيار بشكل غير مباشر بدأت في فترات بعيدة من هذه الفترة.

والجدير بالذكر هنا أن المشروع يأوي أكثر من ثلاثة ملايين ونصف نسمة بشكل مستقر من المزارعين والعمال الزراعين الدائمين والموسمين وعمال المؤسسات الخدمية، وملكية الفرد من المزارعين من الأراضي \"الحواشات\" تتراوح في مساحتها بين خمسة عشر فداناً وأربعين فداناً.

 قامت الراسمالية الناشئة في انجلترا بتنفيذ مشروع الجزيرة في مطلع القرن الماضي على أساس أحدث ما توصلت اليه العلوم الزراعية وذلك لتلبية حاجتها من القطن وفق نظام ري وتركيبة محصولية ودورة زراعية ونظام اداري وعلاقات انتاج تقوم على وحدة انتاجية واحدة.

وكان قرار تأميم مشروع الجزيرة في العام 1950 الذي تغيرت بموجبه ملكية وادارة المشروع من الشركة السودانية وهي شركة أجنبية الي مجلس ادارة المشروع، واحدة من الخطوات الكبرى علي طريق تحقيق حلم المشروع الوطني السوداني والرغبة في الاستقلال السياسي والاقتصادي انذاك.

وكان هذا القرار كذلك من ثمرات النضالات المستمرة للشعب السوداني ضد الاستعمار البريطاني. وكانتصار طبيعي لارادة الشعب، خصص القانون الجديد نسبة 2% من صافي عائدات محصول القطن للصرف على الجوانب الاجتماعية لكل سكان المنطقة المروية.

وقامت مصلحة الخدمات الاجتماعية بالاشراف على إنشاء المؤسسات التعليمية والصحية كما أسست مصلحة الآبار لتوفير المياه، وصرفت المصلحتين على تعليم الكبار ومحو الامية والتدبير المنزلي بل وحتى على أندية الرياضة والترفيه.

ولم تتوقف ثمرات هذا العمل الوطني الا بعد قدوم حكومة الانقاذ الوطني، كما قال قيادي في تحالف المزارعين - الذي فضل عدم ذكر اسمه - إلى النيلان انه تم تعطيل هذه النسبة منذ العام 1992.

ويقول القيادي ”ان حل مصلحة الخدمات الاجتماعية والابار ووقف الخدمات يعد واحدة من جرائم  حكومة الانقاذ لان هذه المصلحة تسدد أموال صرفها من ارباح المزارعين ولذلك لا يحق التعدي عليها“.
 
واشار الى ان ”حكومة الانقاذ تعمدت الغاء القوانين القديمة التي كان يقوم عليها المشروع لالغاء بند الخدمات الاجتماعية، بل وتغيير علاقات الانتاج في المشروع عن طريق تغيير صيغ التمويل وتوزيعاها على منسوبي حزب المؤتمر الوطني“.  

وفي المقابل فان الحديث عن الرفاه السوداني في ظل اعتماد الاقتصاد السوداني على مشروع الجزيرة كركيزة اساسية وعلي محصول القطن (الذهب الابيض) كصادر اساسي ليس ضربا من الخيال أو محض طريقة سودانية في اجترار الماضي والذكريات أو نوع من ادمان البكاء على الاطلال.

تؤكد الارقام والاحصائيات ان مشروع الجزيرة كان أكبر مشروع زراعي في العالم (2.2 مليون فدان) وكان ينتج 70 في المائة من القطن السوداني و65 في المائة من القمح و33 في المائة من الفول السوداني و12 في المائة من انتاج السودان من الذرة.  

كما ساهم المشروع علي مدى عشرات السنين بما يقارب ال 50 في المائة من جملة الصادرات (قبل البترول) وقامت على أكتافه كل المصالح الحكومية والوزارات والمستشفيات وحتى ميناء بورتسودان وجامعة الخرطوم، هذا بالاضافة لفرص العمالة والخمات لاكثر من أربعة ملايين مواطن سوداني كما وضح نفس القيادي.

وتوضح مذكرة قدمها تحالف مزارعي الجزيرة لرئيس الجمهورية ووالي الجزيرة وعدد من المؤسسات والجهات الحكومية ان ”كافة اصول مشروع الجزيرة تعد ملكا خالصا للمزارعين اذ تم سدادها من ارباحهم للمستعمر البريطاني كما تم سداد اصول عدد من المنشات الحكومية“.

وتقول المذكرة ان ”ارباح المزارعين في العامين 1949 و1950 والتي بلغت 23 مليون جنية استرليني استقطتعها الحكومة البريطانية عندما اقتربت من الرحيل كقيمة لميناء بورتسودان وتوصيل السكة الحديدة من الخرطوم الى مدني وبورتسودان وبناء الوزارات في الخرطوم بالاضافة لجامعة الخرطوم“.

اتهام للبنك الدولي

الطرف الثابت في تدمير المشروع على مر الحقب في الجهات الخارجية هو البنك الدولي، أو هكذا يقول الكاتب الصحفي والباحث في هذا الشأن صديق عبد الهادي الذي أضاف أن \"أول تدخل للبنك الدولي في شأن مشروع الجزيرة بدأ أول ما بدأ في عام  1963 عبر لجنة التي عُرِفت باسم ’لجنة ريتس‘وتحت دعوى تقديم المشورة حول التركيبة المحصولية في المشروع وكذلك لتقديم الإستشارة حول الوضع الإداري فيه“.

وأوضح عبد الهادي في مقال مطوّل نشره على موقع الجزيرة الخضراء بتاريخ 9 ديسمبر 2010 \"إن التوصيات الأساسية لهذه اللجنة لم يتم قبولها، وقد يكون ذلك بسبب التوقيت الذي تم فيه تقديم اللجنة لتقريرها وهو العام 1966، اي بعد ثورة اكتوبر 1964، حيث كان المناخ العام في البلاد مفعم بالروح الوطنية العالية وبالنزوعٍ الطاغي لإستكمال الاستقلال السياسي بإستقلال إقتصادي“.

ولكنه عاد وأشار في ذات الموضع إلى أن هذه التوصيات كانت ”القاعدة الاساس التي لم تحد عنها كل اللجان التي تعاقبت على تناول الشأن الخاص بمشروع الجزيرة، بما فيها فريق عمل البنك الدولي الذي تقدم بالتقرير المشهور الذي صدر على ضوئه القانون الجائر لسنة 2005، وهو التقرير الذي عرف باسم ’السودان خيارات التنمية المستدامة في مشروع الجزيرة‘ وذلك في أكتوبر 2000“.

وفي هذا المقام لا بد من الإشارة إلى أن الحساب المشترك في مشروع الجزيرة كان هو الضامن لاستمرارية وجودة الخدمات المجتمعية بشكل عام.

وهذا الحساب المشترك كانت لجنة ريتس المذكورة قد أوصت بالتخلص منه، وهو ما تم فرضه بالفعل من قبل البنك الدولي في عام 1983، وذلك بعد أن ضغط هو ومعه أطرافاً خارجية أخرى وهي الحكومة الإيطالية والحكومة اليابانية والصندوق العربي للتنمية، في سبيل القرض الذي سيقدموه لأجل إعادة تأهيل مشروع الجزيرة إشترطوا إصدار قانون 1984، الذي ألغى الحساب المشترك وأبدله بالحساب الفردي.

جولة داخل المشروع

في جولة صغيرة داخل مشروع الجزيرة تبين لنا أن سكان المنطقة بنسبة تتعدي الـ60 % هم ليسوا مزارعين في الوقت الراهن، ويتعاملون مع المشروع على أنه حيث يسكنون وحيث هي أرضهم ولكنهم يحترفون حرفة أخرى غير الزراعة، وأغلبهم يعملون في الخرطوم، وذلك للمفارقة بعد أن كانت منطقتهم هذه قبلة المهاجرين.

وفي هذا الصدد يقول المزارع ناصر محمود أنه خسر 1500 جنيه في هذا الموسم، وذلك بسبب انقطاع المياه عنهم، ويعود ذلك بحسب ناصر إلى ”غياب العاملين في الري بعد أن فصلتهم الحكومة وقامت بحل جميع مكاتب المشروع استناداً إلى قانون 2005“.

ويضيف ناصر أن العطالة التي ضربت المنطقة حملت الكثيرين على مغادرتها إلى حيث البحث عن الذهب فيما يُعرف بالتعدين الشعبي في شمال البلاد.

وعلى ذات النسق يشير الصادق محمد حسن وهو عضو مجلس تشريعي بولاية الجزيرة إلى أن ”كل المساحات متأثرة بالعطش“، ويعزي ذلك إلى عدم تطهير الترعة الرئيسية للمشروع من تكدس الحشائش والأشجار، وهذا الأمر لا يستقيم في مشروع مروي وسيعمل دون شك على حدوث أزمة به كما هو الحال.

هذا هو حال مشروع، وهذه هي نبذة مختصرة عن حجم المعاناة التي يعيشها المزارعون بسبب سوء التخطيط وعدم الوعي الكافي من الدولة بضرورة الصرف على هذا المشروع.

وقد تكون دوائر عديدة تعتبر أن الحكومة قصدت تدمير هذا المشروع، إلا أن جميع الشواهد تذهب إلى أن السوء الإداري كان هو السبب الرئيسي لتدهوره إلى أن وصل هذه الحالة.